فصل في كيفية تحديد جهة القبلة - 2
July 16th, 2005
و لنشرع ببيان بعض منها، فنقول بحول الله:
__ قال تعالى:{ وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُواْ بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ } (الأنعام/97). و الهداية إنما تكون للمقاصد، و الصلاة من أهم المقاصد. و قد جاء ذلك في سباق الامتنان، و هكذا يدل على المشروعية.
2__ و قال تعالى: { وَعَلامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ } (النحل/16).
و فسر الإمام الشافعيّ رضي الله عنه العلامات في كتابه الأمّ بالجبال التي يعرفون مواضعها من الأرض، و الشمس و القمر و النجوم من الفلك، و الرياح التي يعرفون مهابها على الهواء لتدل على قصد البيت الحرام. إهـ.
و قال رسول الله صلى الله عليه و سلم: “إن خِيارَ عباد الله الذين يُراعون الشمسَ و القمرَ و النجومَ و الأظلةَ لذكرِ الله” رواه الطبرانيّ و قوَّاهُ الحافظُ ابن حجر في الأماليّ. و المراد بقوله عليه الصلاة و السلام: “لذكر الله” أي للصلاة.
أجمعَ الصحابةُ رضوانُ الله عليهم كما هو معروفٌ عند و ضعهم للمحاريب على النظر في جهة البلد بالنسبة لمكة. فإن كان شمالها و جهوا المحراب جنوباً، و إن كان جنوبها و جهوا المحراب شمالاً، و إن كان شرقها و جهوا المحراب إلى غربها و بالعكس.
و هذه المحاريب قائمةٌ موجودةٌ في بلاد المسلمين، و كلامهم في ذلك مُدَوَّنٌ في بطون كتب العلماء. فممّا تقدمّ من ءايٍ و حديثٍ و فعل الصحابة، يُعلم أن العمدةَ في تحديد القبلة معرفةُ جهة البلد من مكة اعتماداً على الشمس و القمر و النجم وما شابه.
و أنت ترى بأنه لم يُذكر في أي نصّ أنه يُعتمد لذلك أقصرُ طريق كما يَلهَج به بعضُ المتحَذلقين اليومَ أو عبارةُ حسابِ الرياضةِ أو المثلثاتِ الكرويةِ، بل أجمعوا في تحديد محاريب المساجد على النظر في جهة البلد من مكة بالاستعانة بالنجم وما شابه. و على ذلك جاءت نصوص الفقهاء و عباراتهم قديماً و حديثاً.
وإليك بعضاً منها:
قال الإمام أبو حنيفة رضي الله عنه: المشرق قبلة أهل المغرب، و المغرب قبلة أهل المشرق، و الشمال قبلة أهل الجنوب، و الجنوب قبلة أهل الشّمال إهـ. و نقله الزيلعيّ في تبيين الحقائق وذكر مثله في الفتاوى الخيرية.
و قال أبو إسحق الشرازيّ الشافعيّ في المهذّب: فإن كان غائباً عن مكة اجتهد في طلب القبلة لأن له طريقاً إلى معرفتها بالشمس والقمر والجبال والرياح. و لهذا قال الله تعالى: {
وَعَلامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ } إهـ.
و قال النوويّ في المجموع: ولا يصحُّ الاجتهاد إلاّ بأدلة القبلة وهي كثيرة و فيها كتب مصنّفة وأضعفها الرياح لاختلافها و أقواها القطب وهو نجم صغير في بنات نعش الصغرى بين الفرقدين والجدي إهـ.
و مثله قال الحصنِيّ الشافعيّ.
وقال ابنُ عابدين الحنفيّ تعليقاً على قول المتن: “فُتبصَرُ وتُعرَف بالدليل، وهو في القرى والأمصار محاريب الصحابة والتابعين و في المفاوز والبحار النجوم كالقطب” قوله كالقطب هو أقوى الأدلة. انتهى كلاُم ابن عابدين من حاشيته.
وقال ابنُ قُدامةَ الحنبلي في المغنى: وأوثق أدلتها النجوم إهـ. ثم قال: وءاكَدُها القطب الشماليّ إهـ.
و مثله ذكرَ البُهوتىّ الحنبليّ في كتاب كشّاف القناع.
وقال أحمد بن ميارة المالكيّ عمَّن ليس في مكة أو المدينة: عليه أن يستدلّ على القبلة بالنجوم وما يجري بمجراها.
قال تعالى: { وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ } وقال تعالى: { وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُواْ بِهَا } ولا خلاف في ذلك إهـ. أي هو إجماع.
فها أنت صرت خبيراً بأن الفقهاء من المذاهب الأربعة رغم أنهم ذكروا أن أدلة القبلة كثيرة وصنفوا فيها كتباً كما قال النووي رحمه الله إلا أنهم لم يعتبروا أمر قصر الطريق أو طوله في تحديدها ولاقرب المسافة أو بعدها من مكة.
بل صرحوا بعدم اعتبار ذلك تصريحاً واكتفوا بطلب الجهة ومعرفتها.
قال أبو حيان في البحر المحيط وهو شافعيّ من أشهر المفسّرين: القبلة الجهة التي يستقبلها الإنسان إهـ.
ونقل ابنُ نُجَيمٍ من الحنفية الإجماع على أن الواجب في حق الغائب هو الجهة إهـ.
وشُدَّ يديك على قولِ الإمام أبي حنيفة المذكورِ ءانفاً في جعل معرفة الجهة هي الأصل، فإنه إمامٌ بلغ رُتبة الاجتهاد المطلق مع الورع و التقوى الشهيرين. ولايدانيه هؤلاء المخالفون له المُتَفَيهِقُون في عُشر مِعشار علمه وورعه.
فاذا ثبت ذلك فكيف تُطلب الجهةُ وتُعرف على ما ذكره علماء المسلمين؟ من المعلوم في الاصطلاح أن الشمال هو عكس الجنوب وأن الشرق هو عكس الغرب وخطّ كليهما متعامدٌ مع خط الشّمال والجنوب. وهذه الاصطلاحات-يقول الغزالي- مردها إلى خلقة الإنسان. فأمّا الشّمال فُيحدَّدُ على الأرض بحسب موقع النجم القطبي كما ذكر الرازيّ الشافعيّ في التفسير والونشريسيّ المالكي في المعيار وابنُ قدامة الحنبلي في شرح الكبير وابن عابدين الحنفيّ و غيرهم ممن لا يحصى من فقهاء المذاهب الأربعة. فجهة النجم هي جهة الشمال. وذكروا في جهة الجنوب نجماً ءاخر هو نجم سُهَيل، جهته هي دائماً جهة الجنوب.
ثم كلّما ارتفع النجم القطبيّ عن الأفق دلّ ذلك على القرب أكثر من الشمال وكلما انخفض دلّ على القرب من الجنوب.
وهذه الاصطلاحات يوافقنا فيها كلّها طبيعيو الغرب و يستعملها ملاحو السفن والطائرات جميعا.
وراجع إن شئت
(How we Got Our Arabic Star by Paul Komizsch)
أو
(Physical Geography by Arthur Strahler, John Wiley & Sons, NY 1969)
نذكر هذا مع علمنا بأن العبرة بما قاله علماء المسلمين و فقهاؤهم لابأقوال غيرهم. وأما الشرق فأمره واضح أيضاً إذ جهة شروق الشمس والمغرب جهة غروبها.
وقد وقف الإمام أحمد رضي الله عنه مستقبلاً الجنوب ثم أشار بيساره وقال هذا المشرق وبيمينه ثم قال هذا المغرب. نقله ابن عبد البرّ وغيره.
واعلم أيها المطالع المنصف أن علماء المسلمين أجمعواعلى أن الكعبة هي و سط المعمورة. وليس في كتاب واحد من مصنّفاتهم في معرفة القبلة ما يخالف هذا.
فإذا وقفت في مكة و نظرت إلى ارتفاع النجم القبطي فيها ووقفت في الولايات المتحدة الأمريكية أو كندا و نظرت إلى ذلك فستجد أن النجم أكثر ارتفاعا في الولايات المتحدة و كندا.
وهذا يعني أن هذه البلاد تقع شمال مكة فلاستقبال الكعبة إذن لابد من التوجه جنوباُ. وإذا انضاف إلى ذلك أن أمريكا تقع في جهة غروب الشمس بالنسبة لمكة التي هي مركز المعمورة لزم من ذلك التوجه شرقاً للمصلي ليكون مستقبلا القبلة.
فالنتيجة الواضحة أنه لابد أن يتجه المصلي في الولايات المتحدة الأمريكية و كندا إلى الجنوب الشرقي إذا أراد أن تكون صلاته صحيحةً موافقةً لفتاوى علماء المسلمين و طريقتهم.
قال المقريزيّ الشافعيّ في فصل المحاريب من خططه (طبعة مصر سنة 1326هـ ج من ص 21 إلى 23): “وقد عرفت إن تمهَّرت في معرفة البلدان وحدود الأقاليم أن الناس في توجههم إلى الكعبة كالدائرة حول المركز، فمن كان في الجهة الغربية من الكعبة فإن جهة قبلة صلاته إلى المشرق…” إلى أن قال: “ومن كان من الكعبة فيما بين الشّمال والغرب فقبلته فيما بين الجنوب و المشرق” انتهى بحروفه.
ومن خالف في هذه المسئلة لزمه أن تكون قبلة كندا التي هي شمالي مكة كقبلة اليمن التي هي جنوبها وأن تكون قبلة الولايات المتحدة الأمريكية كقبلة الصومال وما سامته وكقبلة (تشيلي) وما جاورها. وهذا ظاهر الفساد.
Entry Filed under: فصل في كيفية تحديد جهة القبلة
Leave a Comment
You must be logged in to post a comment.
Trackback this post | Subscribe to the comments via RSS Feed