فصل في نصرة ما سبق بكون الدّين

July 16th, 2005

مما لاشك فيه أن دين الله يسر قال الله تعالى: { يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ } (البقرة/185).
وقال صلى الله عليه وسلم: “إن هذا الدين يسر” رواه البخاريّ و البيهقيّ و غيرهما.
والاجتهاد لمعرفة القبلة لابد منه في غير محاريب النبي صلى الله عليه وسلم ومحاريب الصحابة وما يلتحق بها كما بَيَّنا قبل هذا من نقول العلماء ونصوصهم.
ونقل النوويّ عن الإمام الشافعي أنه لايسع بصيراً يقلد أن لأنه يمكنه الاجتهاد إهـ. قال النوويّ: فإن صلى-أي في الصلاة- فإنه يعيد. إهـ.
وقال ابن عابدين من مشاهيرالحنفية: فإن شَرَعَ-أي في الصلاة- بلا تحرّ-أي للقبلة- لم تجزصلاته…إلخ إهـ.

وقال أبو القاسم الخرقيّ في مختصره الذي هو من أشهر الكتب في المذهب الحنبليّ:”ولايصلي في غير هاتين الحالتين فرضاً ولانافلةً إلا متوجهاً إلى الكعبة، فإن كان يُعَاينُها فبالصواب وإن كان غائبا عنها فبالاجتهاد بالصواب إلى جهتها إهـ.
وسبق ذكرنا أن هذا الاجتهاد يَنبني على النظر في الشمس والقمر والرياح والنجوم وما شابه. ومر أن أقوى هذه العلامات النجم القطبي لثباته على مدار العام. فإنّ الرياح تختلف والشمسَ والقمرَ يجريان، بل إن الشمس لها موضع مكشوفٍ للعرش وتسجد هناك سجوداً يليق بها.
وبناءً عليه فإن اجتهاد العاميّ لمعرفة القبلة لابد أن يكون شيئاً سهلاً فيه يسر من غير مشقة. فإنه يكفيه أن ينظر إلى جهة شروق الشمس ليعرف الاتجاهات الأربعة ليحدد بالتالي أين تقع مكة بالنسبة إليه ويستعين أيضاً بالنجم القطبي لذلك أو بنجم سهيل لمعرفة مدى قربه من مكة أو بعده عنها شمالاً أو جنوباً. و هذا لايحتاج إلى حسابات معقدة ولا إلى الغوص في بحار الهندسة والرياضيات لتحديد جهة القبلة. وهذه الطريقة لاتعطى إلا أن القبلة إلى الجنوب الشرقي في أمريكا الشمالية وهي اللائقة بيسر الشريعة وسهولتها. وأما المخالفون للحق في هذه المسئلة فقالوا إن اعتمادنا لأقصر طريق مبنىُّ على حسابات رياضية دقيقة وحساب المثلثات الكروية وحساب الزوايا اعتماداً على علم الرياضيات وعلم الأشكال الهندسية.

قلنا إن ما وضعتموه من الحسابات لسنا مأمورين به شرعاً لمعرفة القبلة ولا يطيقه كلّ مسلم. والله تعالى لم يكلف العباد ما ليس بوسعهم كما قال تعالى: { لاَ يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا } (البقرة/286). وأمر التوجه إلى القبلة هو من شروط صحة الصلاة التي هي فرض على كلّ مسلم بالغٍ عاقل طاهر.
وتكليف الأميّ تعلم هذه الحساباتٍ حَرَجٌ، والله تعالى لم يجعل ذلك في ديننا كما قال: {
وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ } (الحج/79). و لاندري كيف يريد هؤلاء من كل مسلم ذلك؟ أم هل يمنعونهم عن الاجتهاد لمعرفة القبلة وقد أوجبته الشريعة عليهم إلا لمن كان أعمى عاجزا أو في معناه؟

أم يريدونهم تَبَعاً لهم من غير تَبَصُّرٍ ولا فهم يسألونهم من أين جهة القبلة، فيجيبونهم بمعادلات مَبنيّةٍ على أقصر طريق بزعمهم لاعلى أدلة الشرع فلا يفقهون منها شيئا إلا رقماً مؤسساً على التعقيد.
أو لم يلاحظ هؤلاء أيضاً أن الحساب غير معتمدٍ في شريعتنا لتحديد صيام رمضان، تلك العبادة العظيمة، ولو كان ذلك الحاسب عظيماً في ذلك العلم، بل يُعرف دخول رمضان بالمشاهدة أو استكمال شعبان ثلاثين بنص حديث رسول الله صلى الله عليه و سلم وإجماع أئمة المذاهب. و على مثل هذا أيضاً تَبنى معرفة السنة القمرية المعتمدةُ في حسابات الشريعة. وما ذلك إلاّ من يسر الشريعة و سهولتها.

وقد قال الونشريسيّ في المعيار المعرب: اتفاق أهل الحساب لا عبرة به لعدم ورود الشريعة المحمدية بطريقتهم في استخراج القبلة إهـ. وقال: وأما الاستدلال بالآلات فلم يرد عن السلف الصالح رضي الله عنهم فلا يلزم الرجوع إليها و لايجوز أن تجعَلَ حاكمة على الأدلة الشرعية إهـ.

و مثله قال خيرُ الدَّين الرملي الحنفيّ في الفتاوى وغيرهما.
وذلك لأنّ الأحكام الشرعية ليس مدارها على الآلات الفلكية و الهندسية لأن الرسول عليه السلام رَدَّهَا بقوله: “نحن أمَّةٌ لانكتبُ ولا نحسِبُ” رواه البخاريّ ومسلم.

ولأن الإسلام دينٌ يَسهُلُ العمل بأحكامه لكلّ فردٍ من الأمة، سواء كان عامياً أمياً أو عالماً بارعاَ، وأينما كان في البر أو البحر أو الجو وفي المدن أوالصحارى أوالغابات أوالكهوف، فمدار العمل على النصوص في الكتاب والسنة وعلى ما استنبطه منها أهل الإستنباط. وإلا يكون أيضاً هذا الدين موقوفاً على الحساب والكتابة كما هو حال سائر الأديان الدنيوية الباطلة. وهذا ما نفاه رسول الله ورَدَّهُ.

هذا عدا أن عبد الله العبدليّ ومن حذا حذوه قد اعتمدوا في حساباتهم على أن الأرض كروية تماماً، ولم يلتفتوا عمداً أو جهلاً أو تجاهلاً إلى أن الأرض بيضاوية في الحقيقة كما عرف علماء المسلمين من زمان بعيد وكما قرره متأخرو الفلكيين الغربيين. قال ديريك هــ. يتس، نائب رئيس متحف العلوم التابع لمؤسسة فرانكلين في (فيلادلفيا) في الولايات المتحدة، بعد سؤاله عن ذلك: اليوم نحن نعرف أن الأرض ليست مستديرة تماماً، بل إن شكلها إهليجي أي مُفَلطح عند القطبين. و حتى هذا الشكل ليس نظامياً تماماً، بل فيه زوايا متركزة في ناحية إيرلندا وقرب البيور وجنوب إفريقيا و غينيا الجديدة إهـ. وصورة جوابه موجودة في نهاية هذا الفصل.

وإني أحبّ أن أسأل أصحاب نظرية المثلثات الكروية في تحديد القبلة لو أن أحد الصحابة قدم في زمانه إلى الولايات المتحدة الأمريكية و كندا، كيف تظنون أنه كان سيحدد جهة القبلة؟ كما ذكر علماء الدين، ونص عليه رسول الله، وبين الله في كتابه، أم بحساب المثلثات الكروية؟
هل كان ذلك الصحابي سينظر في الشمس والنجم ويحدد مكة بالنسبة للولايات المتحدة أو كندا ثم يستقبلها أم كان سيخرج أوراقاً وأقلاماَ وءالاتٍ وحساباتٍ كروية ثم يعمل حساب أقصر طريق مُستخدماً علم المثلثات الكروية و الرياضيات المعقدة؟
لا شك أن الجواب هو أنه سيعتمد الطريق الأول.
فأنعِم بطريقة الصحابة وكفى غروراً بالمرء أن يظن نفسه قد علم من دين الله و لوازمه وقواعده ما جهله صحابة رسول الله صلى الله عليه و سلم الذين تعلموا منه وتثقفوا على يديه.
بل دلت المشاهدة العيانيَّة على أن توجيه البوصلة على ما اعتمد عليه عبد الله العبدلي و أمثاله يخالف قبلة مسجد الرسول صلى الله عليه و سلم في المدينة المنورة. فهل تُتّبَع البوصلة وحسابات المثلثات أم يُتبَعُ رسولُ الله في ذلك؟
بل لايجوز الانحراف شعرة عن قبلة رسول الله.

وكذلك في المسجد الأمويّ، في دمشق الذي صلى فيه كثير من الصحابة و استمر علماء المسلمين على تصويب قبلته منذ الصدر الأول إلى اليوم، توجيه البوصلة فيه يخالف قبلة المسجد مخالفة ظاهرةً.

فماذا يريد العبدلي و أمثالهُ أن نفعل؟ هل نترك ما علمه الرسولُ وأصحابه واستصوبه كلّ علماء الأمَّة لننقادَ لحساباته؟!! أم نقول طريق رسول الله وأصحابه هي التي تُتَّبعُ وافقَ عليها من وافق وخالف من خالف؟
أم يريدنا أن نُخَطّئَ رسول الله وصحابته لنصوبَ حساباته وحسابات من مشى على نهجه و خطته؟!! وهل يوافق مسلمٌ على ذلك؟!!
بل ما جاء به النبيُّ وصحابتهُ فعلى الرأس و العين، وما خالفه يردُّ على صاحبه كائناً من كان قال الله تعالى: { وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِم } (الأحزاب/36).

Entry Filed under: فصل في نصرة ما سبق بكون الدّين

Leave a Comment

You must be logged in to post a comment.

Trackback this post  |  Subscribe to the comments via RSS Feed


Calendar

December 2024
M T W T F S S
« Jul    
 1
2345678
9101112131415
16171819202122
23242526272829
3031  

Most Recent Posts